بين الشكليات والواقع.. كيف تؤمّن الدولة حياة نشطاء حقوق الإنسان في مالي؟
بين الشكليات والواقع.. كيف تؤمّن الدولة حياة نشطاء حقوق الإنسان في مالي؟
يتعرّض المدافعون عن حقوق الإنسان في دولة مالي لمخاطر متفاقمة منذ انفجار النزاع المسلح في 2012 ثم توالي الانقلابات والتغيّرات السياسية والأمنية خلال الأعوام الأخيرة، وتشمل التهديدات التخويف والتشهير والاعتقالات التعسفية والتعذيب والقتل، إضافة إلى قيود تشريعية وإدارية تقلّص مساحة العمل المدني وتضعف قدرة المدافعين على الاستجابة لانتهاكات الحقوق الأساسية، وتتطلب هذه الأزمة حلولاً متكاملة تجمع بين حماية قانونية داخلية، وآليات استجابة سريعة، وبنية تمويل مستقرة ودعماً دولياً منسقاً.
مالِي مرّت بمرحلتين من الأزمة المتداخلة: تفكك سلطة الدولة وانتشار الجماعات المسلحة منذ 2012، ثم هزّات سياسية متتالية (انقلابات 2020 و2021) أدت إلى بروز قوى موازية وأجهزة أمنية جديدة وممارسات قمعية، وانسحاب بعض البعثات الدولية وتعزيز الاعتماد على مرتزقة أو تحالفات إقليمية أدّى إلى مزيد من التعقيد وأتاح ارتكاب انتهاكات دون مساءلة فعّالة. في هذا المناخ تصبح منظمات المجتمع المدني والمدافعون عن الحقوق أهدافاً سهلة للاستهداف من جهات رسمية وغير رسمية على حد سواء.
تداعيات إنسانية ومجتمعية
أثّرت موجات العنف والنزوح سلباً على مناخ الحماية المدني؛ وبحسب موقع "الخدمة الدولية لحقوق الإنسان" فقد بلغت أعداد النازحين داخلياً مئات الآلاف، ما فاقم هشاشة المجتمعات وأضعف شبكات الدعم المحلية التي يعتمد عليها المدافعون عند الاستهداف أو الاستجابة للطوارئ الإنسانية. كما وثّقت منظمات حقوقية حالات تنفيذ خارج إطار القانون ضد مدنيين ومجموعات مدنية، وهو ما يعكس فشلاً في آليات المساءلة وحماية الحقوق الأساسية، وفق المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين
منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وأمنستي والرابطة الدولية للحقوقيين وصندوق حرية المدافعين سلّطت الضوء في تقاريرها على توقيتات وطرق الانتهاكات، ودعت إلى تحقيقات مستقلة وحماية عاجلة للمدافعين، وطالب خبراء أمميون بالإفراج الفوري عن ناشطين واستنكار ممارسات أجهزة الاستخبارات التي وثقت حالات تهديد واختطاف واستدعاءات تعسفية، في المقابل شرعت الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان في مالي مؤخراً في وضع دليل وآليات داخلية لحماية المدافعين وتعزيز قدرات الاستجابة كخطوة وطنية مهمة.
الآليات المحلية في مالي تفتقر غالباً إلى الاستقلالية والموارد الكافية، وتعمل ضمن شبكة قانونية وتعليمات إدارية قابلة للتجاوز، وتحد كل من القيود على حرية الصحافة والتجمّع، ووجود أجهزة أمنية جديدة تتصف بالسرية والامتيازات، من فعالية أي نظام حماية ويفتح الباب أمام ممارسات انتقامية أو تكميم للصوت المدني، وتشير تقارير رصد المساحات المدنية إلى تراجع المكاسب الحقوقية في دول الساحل، بما في ذلك مالي، وهو ما يستدعي إصلاحاً تشريعياً ومؤسساتياً عاجلاً.
آليات مقترحة للحماية
يوصي مراقبون من شبكة حماية المدافعين عن حقوق الإنسان بعدة مقترحات، منها:
أولا: إقرار قانون وطني لحماية المدافعين
إقرار قانون وطني يستند إلى المعايير الدولية (إعلان الأمم المتحدة الخاص بالمدافعين ونموذج القانون الإفريقي) ويعرّف المدافع، ويقدّم ضمانات استقلالية للآليات الوطنية، ويجرّم الاعتداءات والتمييز ضدهم، ويحدّ من سلطة الأجهزة الأمنية في ممارسات تعسفية، وهذا الإطار يوفر مرجعية قانونية لعمل اللجان والقضاء.
ثانياً: آلية وطنية للحماية تعمل على مدار الساعة
تفعيل آلية وطنية مموّلة داخلية أو عبر شراكات دولية توفّر خطاً ساخناً لتلقي البلاغات، وحدات استجابة طارئة، وخطط إخلاء مؤقت أو نقل داخلي، مع بروتوكولات تحفظ السرية وتحمي العائلات كما يجب أن تكون الآلية مستقلة تشريعياً ومباشرة التعاون مع المؤسسات الدولية.
ثالثاً: تعزيز استقلالية وبناء قدرات الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان
تطوير قدرات اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في مالي وتمكينها مادياً وقانونياً لتوثيق الانتهاكات وتقديم التوصيات والتمثيل القضائي وطلب المراجعات الدولية، بما ينسجم مع مبادئ باريس لمؤسسات حقوق الإنسان ودعم فني من مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان والمنظمات المتخصصة مطلوب لتدريب فرق التحقيق والحماية الرقمية والطبية القانونية.
رابعاً: حماية رقمية ونفسية ومجتمعية
برامج أمن رقمي للمدافعين، تدريب على إدارة مخاطر الإعلام الاجتماعي وتشفير الاتصالات، بالإضافة إلى خدمات دعم نفسي واجتماعي للمدافعين المعرضين للصدمة حيث يمكن لشبكات محلية للمجتمعات والحماية المجتمعية أن تقلّص أخطار العزل والتعرض الانفرادي.
خامساً: آليات دولية وإقليمية للمساءلة والدعم
تفعيل آليات مراقبة دولية وإقليمية، مثل إحالات إلى المفوضية الإفريقية لحقوق الإنسان ولجنة الأمم المتحدة المناصرة لحقوق المدافعين، وتسهيل منح حماية مؤقتة أو تأشيرات طارئة للمدافعين المعرضين للخطر عبر مبادرات مثل آليات الملاذ الآمن التي روجت لها مؤسسات الحماية الأوروبية، كما ينبغي ربط المساعدات الفنية والاقتصادية بشرط احترام معايير الحماية.
دعم المجتمع المدني
توفير صناديق طوارئ محلية تموّل حماية المدافعين، ودعم قانوني مجاني، وتوظيف خبراء أمن وحماية في المنظمات المحلية، مع آليات شفافة للمساءلة المالية لضمان استمرارية الدعم دون إضعاف سيادة الدولة.
تحويل التزامات الحماية من نصوص ومبادرات تدريبية إلى واقع آمن يتطلّب إرادة سياسية وطنية، دعم دولي منسّق، ومشاركة مجتمعية فعّالة، اعتماد دليل الحماية الذي أعدّته الهيئة الوطنية خطوة ضرورية، لكن تنفيذ بنود الحماية بشكل مستقل ومتواصل وتمويله وتكامله مع آليات دولية هو ما سيحدد الفارق بين استمرارية عمل المدافعين أو تراجع مساحة الحرية المدنية في مالي.
وتؤكد التقارير الدولية والمحلية المتواترة أن الوقت ليس في صالح من يدافعون عن الحقوق؛ لذلك فإن المسارات المقترحة تمثّل جدول أعمال عملياً وسياسياً يمكن أن يحدّ من المخاطر ويعيد إشعاع الحماية إلى الفاعلين المدنيين.











